فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسؤول عنها تسع، وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلى الله عليه وسلم، وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصًا بهم ليدل على إحاطة علمه صلى الله عليه وسلم بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله.
وقال بعض الآجلة: إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلى الله عليه وسلم بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورًا وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي اهـ.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصًا في ذلك نعم هو كالظاهر فيه لكن كثيرًا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعًا لابد لنفي ذلك من دليل، وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه صلى الله عليه وسلم إلخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي تسعًا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل.
فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر {مَعِىَ بني إسرائيل} وقرأ جمع {فسل} والظاهر أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام، والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسال على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وإنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا تتخالف القراءتان ولابد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرًا وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول المضمر قوله تعالى: {يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ} وهو متعلق بسال على قراءته صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ} لأنه لو كان فاسأل خطابًا لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضًا لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضًا من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ** ان سوف يأتي كل ما قدرا

وهذا الوجه مستغن عن الإضمار و{إِذْ جَاءهُمُ} متعلق عليه بآتينا ظرفًا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلى الله عليه وسلم في وقت مجىء موسى عليه السلام، قال في الكشف: والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسؤولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يجمل به موقع الاعتراض، وجوز أن يكون منصوبًا باذكر مضمرًا على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل {فَاسْأَلِ} اعتراضًا ويجعل اذكر بدلًا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوبًا كذلك بيخبروك مضمرًا وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم.
ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفًا له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجىء، واعترض أيضًا بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجىء أو ذكره لا يلائمه.
ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذٍ هم الموجودون في زمانه صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام.
والفاء في {فَقَالَ} على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال: {إِنّى لاظُنُّكَ يا موسى موسى مَّسْحُورًا} سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
وقال الفراء والطبري: مسحورًا بمعنى ساحرًا على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات.
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}.
{قَالَ} موسى عليه السلام ردًا لقوله المذكور {لَقَدْ عَلِمْتَ} يا فرعون {مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين:
والعيش بعد أولئك الأيام

وقد مر {إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض} أي خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماءً إلى أن إنزالها من آثار ذلك، وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: {وما رب العالمين قال رب السموات والأرض} [الشعراء: 23] تنبيهًا على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والكسائي: {لَقَدْ عَلِمْتَ} بضم التاء فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر.
وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم والله تعالى أعلم.
وجملة {أَنزَلَ الله} إلخ معلق عنها سادة مسد {عَلِمَتِ} وقوله تعالى: {بَصَائِرَ} حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعًا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز ما ضرب هندًا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فءن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل؛ والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججًا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون {هَؤُلاء} إشارة إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك {وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أي هالكًا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه للنسب بناءًا على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم بمهلكًا وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال: أي مصروفًا عن الخير مطبوعًا على الشر من قولهم: ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونًا محبوسًا عن الخير.
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال: رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن {مَثْبُورًا} في الآية فقال: مخالفًا ثم قال: الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه، وما ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل: إن تفسيره بهالكًا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابًا لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا} [طه: 44] وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولًا يتوقع من فرعون المكروه كما قال: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] فأمر أن يقول له قولًا لينًا فلما قال سبحانه له: {لاَ تَخَفْ} [النمل: 10] وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمى وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين.
وقرأ أبي: وابن كعب {وَأَنْ إخالك يَا فِرعون لمثبورًا} على إن المخففة واللام الفارقة، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس.
{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)}.
{فَأَرَادَ} فرعون {أَن يَسْتَفِزَّهُم} أي موسى وقومه، وأصل الاستفزاز الإعاج وكني به عن إخراجهم {مّنَ الأرض} أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فاخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده.
{وَقُلْنَا} على لسان موسى عليه السلام {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه {لّبَنِى إسرائيل} الذين أراد فرعون استفزازهم {اسكنوا الأرض} التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة} أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفًا ولفيفًا، والمراد منه ما أشير إليه، وفسره ابن عباس بجميعًا وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم، ونص بعضهم على أن في {بِكُمْ} تغليب المخاطبين على الغائبين، والمراد بهم وبكم وما ألطفه {مَّعَ لَفِيفًا}. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به. وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ} الآية {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: عنها: فإنهم يعلمونها، مما لديهم من التوراة. فيظهر للمشركين صدقك، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب. لأن الأدلة إذا تظاهرت، كان ذلك أقوى وأثبت: {إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أي: فذهب إلى فرعون وأظهر آياته، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه. فقال له فرعون ما قال. وقوله: {مَسْحُورًا} بمعنى سُحرْتَ فخولط عقلك. أو بمعنى ساحر، على النسب. أو حقيقة، وهو يناسب قلب العصا ثعبانًا. وعلى الأول هو كقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ} أي: يا فرعون: {مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} أي: الآيات التسع: {إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} أي: بينات مكشوفات لا سحر ولا تخيل. ولكنك معاند مكابر، ونحوه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، والبصائر جمع بصير بمعنى مبصرة أي: بيِّنة. أو المراد الحجج، بجعلها كأنها بصائر العقول. وتكون بمعنى عبرة: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} أي: هالكًا.
{فَأَرَادَ} أي: فرعون: {أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ} أي: يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فَرَقًا منه. أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال. والضمير لموسى وقومه. و{الأرض} أرض مصر. أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين، وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} أي: فحاق به مكره، لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين، ليرجعهم إلى عبوديته، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق.
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد إغراقه: {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} وهي أرض كنعان، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها.
قال ابن كثير: في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة. وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76]. ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة، على أشهر القولين، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلمًا وكرمًا. كما أورث الله القوم، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل، مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 59] وقال ها هنا: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: قيام الساعة: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} أي: جمعًا مختلطين أنتم وعدوكم. ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم. ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى. اهـ.